الحياة في وكالات الإعلان
قد تكون من أكثر علاقات الأعمال جدلية علاقة المؤسسات بوكالات الإعلان (أو الوكالات الإبداعية عموما)؛ حيث تتسم العلاقة بين الطرفين في غالب الأحيان بمزيج من الأبعاد والمواقف والمشاعر سواء من ناحية مستويات الثقة المتبادلة أو مدى الالتزام بنطاق العمل أو القيمة المتحققة من الأعمال. وبناء على ذلك فإن من المثير للاهتمام مدى قابلية تغير القناعات والمواقف التي يتبناها من تمكنوا من العمل في جانبي المؤسسات ووكالات الإعلان - لحسن الحظ أو لسوئه - طبقا للجهة التي يعملون لديها. بالنسبة للمؤسسات فإنها تنظر إلى وكالات الإعلان بأنها غالبا ما تعطي مستويات أقل من المتوقع من ناحية الإبداع وجودة العمل؛ متصورة بأن منافسي المؤسسة ذاتها أو منافسي وكالة الإعلان يملكون مستويات أعلى في الإبداع وجودة العمل. كما يشوب تلك العلاقة من جهة المؤسسات الكثير من التوجس حول ما إذا كانت وكالات الإعلان تقدم المقترحات والحلول والمبادرات من أجل جني المزيد من المال أو على الأقل الفوز بشيء من الجوائز الإبداعية، إلى جانب محاولة استغلال كافة موارد وكالات الإعلان طالما كانت العلاقة التعاقدية قائمة. أما من جهة وكالات الإعلان فإن أبرز ما يتلخص من نظرتها تجاه المؤسسات هو أن مسؤوليها غالبا لا يعرفون ما يريدون، ولا يقدرون عامل الوقت، ويستبيحون موارد الوكالات، ويغلّبون أذواقهم الشخصية على العناصر العلمية والمهنية في العمل.
كلتا النظرتين لم تكونا أبدا بخافيتين على أي من الطرفين في مختلف الفترات، فعبر ما تجسده كتب أعظم شخصيات الإعلان مثل السير جون هيجارتي وديفيد أوجيلفي، أو ما صوره كتاب سيناريو مسلسل "رجال ماديسون آفينيو / الرجال المجانين" Mad Men الشهير، وحتى الوسوم الرائجة والحسابات المتخصصة عبر منصات التواصل الاجتماعي التي تبين جدلية تلك العلاقة. فعلى سبيل المثال يلخص حساب (آد ويك AdWeak) على منصة تويتر الجوانب المأساوية للعلاقة بين المؤسسات ووكالات الإعلان بطريقة ساخرة يجد فيها المنسوبون لكلا الجانبين متنفسا في خضم الأعمال اليومية، كما يلجأ العديد من العاملين في وكالات الإعلان إلى استخدام وسوم رائجة مثل AgencyLife لسرد مواقف فريدة أو ممارسات متشابهة يواجهها العاملون في وكالات الإعلان أثناء عملهم بشكل يومي.
محليا فإن الأمر لا يختلف كثيرا، وبالنسبة لمن حظوا بفرصة العمل في وكالات الإعلان فإنه وبالرغم مما يمكن أن يثار من مآخذ تجاه العمل في وكالات الإعلان سواء من حيث المستقبل المهني أو العائد المادي أو ميزان العمل والحياة المختل، إلا أن للعمل في تلك الوكالات قيمة عظيمة سواء من حيث صقل المهارات الإبداعية أو شبكة المعارف أو القطاعات ومجالات الأعمال التي يتعرفون إليها نظرا لتنوع المؤسسات التي تعمل وكالات الإعلان لصالحها. وبالعودة بالذاكرة للوراء في فترة العمل لدى واحدة من وكالات الإعلان المحلية، فإن أبرز ما لا يزال عالقا بها مدى الاغتراب الثقافي الذي كان يهيمن على قطاع الإعلان نظرة لطبيعة الاستثمارات التي كانت توضع فيه؛ فبينما كانت ملكية تلك الوكالات المسجلة لدى الجهات الرسمية تؤول لمواطنين وفقا للقوانين المنظمة للتجارة آنذاك - أحيانا بالشراكة مع غير العمانيين- إلا أن تلك الوكالات كانت تشغّل من قبل غير العمانيين سواء على المستوى الإداري أو على المستوى الإبداعي. وقد أدى ذلك إلى تأسّس ممارسات لا تزال تلقي بظلالها على مشهد الإعلان إلى اليوم أبرزها أن التوجهات الإبداعية والعناصر البصرية والنصوص الإعلانية يتم تطويرها بتفكير غير محلي في البداية حتى تستوفي دورة تطوير التوجهات الإبداعية داخل وكالة الإعلان، ثم بعد ذلك يتم تعريبها بما يؤثر على احتمالية تقبل تلك العناصر من جهة الجمهور المحلي. إلا أنه وفي المقابل قد لا تقع اللائمة بأكملها على أسلوب إدارة وكالات الإعلان؛ فقد يكون أحد أسباب ذلك الاغتراب عدم اهتمام - أو إلمام - العمانيين بقطاع الإعلان كوجهة للعمل، أو القوانين والتشريعات في ما يتعلق بتوطين الوظائف والتي كانت تتطلب استيفاء نسب دنيا من الوظائف للعمانيين بغض النظر عما إذا كانت إدارية أو إبداعية والذي نتج عنه وجود العديد من العمانيين في الجانب الإداري مقابل امتلاء مقاعد الأقسام الإبداعية بغير العمانيين.
وقد ينظر لتلك المرحلة كتمهيد للتحول الذي يشهده قطاع الإعلان اليوم وخصوصا في جانب وكالات الإعلان؛ حيث أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إيجاد كوادر عمانية في قطاع الإعلان ما لم يتمكنوا من الاحتكاك بنظرائهم ممن كانوا يقودون المشهد حتى وقت قريب. وقد كان أحد الأمثلة الحية العالقة في الذاكرة أحد الشباب العمانيين آنذاك الذي طلب فرصة للتدريب في إحدى أكبر وكالات الإعلان بنية الحصول على القدر الكافي من الخبرة من أجل إنشاء شركته الخاصة في ذات القطاع وهو نموذج ريادي سابق لأوانه يتبع خطاه العديد من الشباب العمانيين من حولنا. وللإنصاف فقد كان هنالك العديد من العاملين في مستويات عليا في الجانب الإداري والجانب الإبداعي ممن رأوا الحاجة إلى وجود حقيقي للعمانيين في قطاع الإعلان بشكل عام وفي الجانب الإبداعي منه بشكل خاص، ولا يزال الامتنان قائما لمن أخذوا على عاتقهم مهمة تبني الشباب العماني في هذا المجال وصقل مهاراته بما لا تزال ثماره تجنى حتى اليوم.
وبالرغم من المشاعر المختلطة التي نتلقى بها أخبار أفول نجم وكالات الإعلان التقليدية في السلطنة - التي كانت في يوم من الأيام يشار لها بالبنان - والتي بلغت ذروتها في العقد الأول من الألفية الثالثة بتحولها إلى مجموعات إبداعية عوضا عن كونها وكالات إعلانية، إلا أنه من الممكن النظر إلى هذه الظاهرة بأنها تصحيح لمسار هذا القطاع، خصوصا مع ظهور وكالات إعلان محلية تأسست بدافع الشغف وإثبات الذات وإثراء القطاع - دون إهمال الجوانب المادية بالتأكيد - والتي تتسم بالمرونة وسرعة التعلم وقابلية التكيف مع التطورات المتسارعة التي يشهدها القطاع نظرا لارتباطه المباشر بتقنيات الاتصالات والمعلومات. فقد بلغت تلك الوكالات الناشئة من الجدارة ما مكنها من أن تكون محل ثقة كبريات المؤسسات المحلية وشبكات وكالات الإعلان العالمية التي تتخذ بعض الوكالات المحلية الناشئة كذراع إبداعي محلي لديه من الفهم الكافي بالثقافة والمجتمع ما يمكنه من تمرير الرسائل الإعلانية بقوالب إبداعية مستساغة من قبل الجمهور المحلي. إلا أنه وفي المقابل فإن المسؤولية التي تقع على عاتق تلك الوكالات الناشئة كبيرة خصوصا في الارتقاء بذائقة الجمهور، وإلهام المزيد من العمانيين لتأسيس وكالاتهم الإعلانية، واستدامة زخم نمو القطاع بما ينعكس إيجابا على الاقتصاد الوطني.