الحياة في وكالات الإعلان - 2
تناولت هذه المساحة مؤخرا طبيعة العلاقة بين وكالات الإعلان والمؤسسات، واستعراض بعض جوانب العمل في وكالات الإعلان وطقوسها الداخلية وقضاياها الأزلية التي قد لا تخلو منها أي وكالة إعلان حول العالم. غير أن هنالك الكثير مما يمكن أن يروى عن الحياة داخل تلك الوكالات بناء على التجارب الشخصية التي يمر بها من حظوا بفرصة العمل فيها؛ سواء حول بيئة العمل أو العلاقة بين الموظفين أو روح الفريق والمنافسة أو حتى العلاقة مع المؤسسات المعلنة.
إن من أبرز ما تخلده الذاكرة بالنسبة للعمانيين الذين واكبوا مرحلة طفرة وكالات الإعلان في السلطنة بالانضمام للعمل فيها قبيل نهاية العقد الأول من هذه الألفية هو تحلق غير العمانيين حول ذلك الكائن الغريب في أروقة الأقسام الإبداعية — مثل الإخراج الفني وتحرير الإعلانات والتصميم — من أجل التعرف عن قرب على ثقافة المجتمع العماني من حيث اللغة واللهجات والأطعمة والملابس والعادات والسلوك الاستهلاكي والتصورات تجاه المؤسسات والمنتجات والمشاهير والعلامات التجارية. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الفترة الزمنية تزامنت مع حدوث تحولات عديدة في مشهد قطاع الأعمال بالسلطنة كان أبرزها على سبيل المثال تحول البنوك من مجرد مؤسسات تقدم خدمات مصرفية إلى كيانات ضخمة تضم وحدات أعمال Business Units يعمل كل منها بمستوى من الاستقلالية يؤهله للتعاقد مع وكالته الإعلانية الخاصة به، بالإضافة إلى ظهور المشغلين الافتراضيين لخدمات الاتصالات المتنقلة MVNOs كلاعبين جدد في قطاع الاتصالات وانتشار تقنيات النطاق العريض للإنترنت المتنقل، وامتداد تأثيرات طفرة القطاع العقاري وظهور مشاريع المجمعات السياحية المتكاملة ITCs، وغيرها من مظاهر النمو الاقتصادي. وقد صاحب ذلك النمو توسع وكالات الإعلان لتكون هي الأخرى مجموعات إبداعية تقوم بتقديم خدمات متكاملة عبر شركات متنوعة مثل الإعلان، وتخطيط وشراء الوسائط الإعلانية، وخدمات العلاقات العامة، وتنظيم الفعاليات، والبحوث التسويقية.
وبالرغم من هوامش الربح المرتفعة التي كانت تحققها تلك “المجموعات الإبداعية” بما قد يبرر وجود بيئات عمل مرنة، إلا أن العديد منها كانت تتبنى ثقافة عمل مالية بحتة تجسدت في بعض المراحل في تعميم استمارات حساب الوقت Timesheets من أجل تسجيل الفترات الزمنية التي يستغرقها العاملون في الوكالات لإنجاز مهامهم وبالتالي إحكام الإدارة القبضة على مستويات إنتاجية الموظفين. بالرغم من ذلك فقد كانت جميع وكالات الإعلان في السلطنة تعمل بنظام ساعات عمل القطاع الخاص “البحت”، حيث أنه ومع وجود عدد من الشركات الكبرى التي تعمل خمسة أيام في الأسبوع، إلا أن الغالبية العظمى من شركات القطاع الخاص كانت تطبق نظام خمسة أيام ونصف — وهي ربما تسمية غير عادلة إذا علمنا أن ساعات العمل في اليوم الواحد تمتد من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء مع وجود ساعة استراحة في الظهر — بالإضافة إلى الفوارق في أيام الإجازات الرسمية بين القطاعين العام والخاص التي زالت في وقت لاحق.
وبالنظر إلى مدى انغماس منسوبي وكالات الإعلان في أعمالهم، فقد حدا ذلك بالموظفين من جنسيات مختلفة لتكريس ثقافة (اعمل بشدة وامرح بشدة Work Hard Play Hard) عبر تأسيس نادٍ يضم العاملين في مختلف وكالات الإعلان في السلطنة تحت مسمى نادي (تُطَبَّقُ الشُّروط Conditions Apply) بما يجسد السخرية من أكثر العبارات انتشارا في الإعلانات في مختلف القطاعات، حيث كان النادي يتبنى تنظيم أنشطة ترفيهية واجتماعية مثل بطولات البولينج ومسابقات إبداعية ومآدب عشاء ساهمت في تعزيز الروابط ضمن قطاع الإعلان. أما على مستوى الوكالات بشكل منفرد فقد كانت ثقافة الاحتفال بالإنجاز حاضرة مع كل فوز بمنافسة إبداعية أو إطلاق حملة إعلانية أو تحقيق إيرادات قياسية، حتى وإن كانت طريقة الاحتفال عبارة عن تناول وجبة إفطار بعد تقديم عرض تصورات تصميم هوية حدث رياضي كبير قضى من أجلها الفريق ليلتهم كاملة في المكاتب لإعدادها.
وبالعودة إلى مستوى النضج الذي وصلت إليه المجموعات الإبداعية في تلك الفترة والذي نتج عنه النهم الكبير في الحصول على أكبر قدر من البيانات والمعلومات التي تساعد في استمرار نموها، فإن ما لا يغيب عن الذاكرة مشروع “مسح التفضيلات الإعلانية” الذي قامت به إحدى تلك المجموعات، حيث كلفت اثنين من موظفيها بزيارة حواضر مختلف محافظات السلطنة من أجل استبيان آراء شرائح المجتمع ومعرفة توجهاتهم فيما يتعلق بأفضل العلامات التجارية، وأكثر المواقع الإلكترونية زيارة، وعدد مرات مشاهدة التلفاز، وأيام قراءة الصحف، وفترات الاستماع للإذاعات، وأنواع المنتجات المستخدمة مثل الهواتف والسيارات والمنتجات الاستهلاكية، وغيرها من المعلومات التي ساهمت لاحقا في تطوير ذراع شراء وتخطيط وسائط الإعلان التابع لتلك المجموعة.
وبالرغم من العبء النفسي الذي قد يتحمله العاملون في هذا القطاع، إلا أن هنالك من المكافآت المعنوية ما يساعد على استدامة الإقبال على العمل بروح متجددة؛ سواء عند مرورهم بجانب لوحات إعلانية نفذوها مع زملائهم، أو تصفحهم للعدد الجديد من مجلة الناقل الوطني الذي عملوا على إعداده وتحريره وكأنهم يقرأونه لأول مرة، أو توجههم لشراء سيارة من علامة تجارية كانوا قد أنتجوا إعلاناتها قبل فترة، أو مصادفة مواقع حفريات شبكات الصرف الصحي التي ساهموا في إعادة تصور علامتها التجارية لتكون أكثر قربا من المجتمع، أو الالتزام بالولاء تجاه محطات الوقود التي أنتجوا حملتها الإعلانية مؤخرا. وبقدر ما تتيحه تجربة العمل في وكالات الإعلان من إمكانية ملامسة حياة الآلاف من الناس كل يوم كنتيجة مباشرة للأعمال المنتجة، فإنها كذلك تعطي عائدات معنوية على المدى البعيد خصوصا عبر شبكة المعارف والعلاقات المهنية، وكذلك رصيد المعرفة والخبرة التي سيحملها أولئك العاملون معهم عبر مسارهم المهني مستقبل؛ وإن عاماً من الخبرة في وكالات الإعلان كعشرة أعوام مما يعدون في غيرها من المؤسسات.